ابني الذي أنجبَتهُ أُختي
لا
شك أن كلَّ أبٍ في هذه الدنيا يُسعِده ما يجده من أولاده من نفعٍ وطاعةٍ، وامتثالٍ
لما يأمر به وانضباطٍ وأدبٍ في تعاملهم معه، وصبرٍ وتحمُلٍ لما يحصل منه من شِدةٍ
وقسوة، قد يضطرُّ لها في أوقاتٍ متفرقة، وغيرِها الكثير من صُورِ بِرِّ الأولاد
بآبائهم التي لا تخفى.
وكلُّ
ما سبق أمرٌ واجب، لا يُستغربُ حدوثُهُ، ويحصلُ كثيراً في مجتمعنا الإسلامي الذي
يؤمن بالكتاب والسنة، التي تأمر المسلمَ ببرِّ الوالدين وطاعتِهما والتحذيرِ من
العقوقِ تجاههما.
لكن
أن يتحقق البِرُّ في أزهى صُوَرِه وأجملِ معانيه من شخصٍ تجاهك؛ هذا الإنسانُ لا
ينتمي لأُسرتِك ولا يوجد اسمُهُ في سجلِّ العائلةِ الخاصِ بك فهذا الذي يحتاج
لوقفة.
هذا
الإنسانُ البارُّ الذي أفردتُ له هذا المقال، له من اسمه نصيب، أطلق عليه والداه
اسم مبارك فكان
مباركاً في مراحل حياته كلِّها؛ تلك الحياة التي عاشها بعيدا عن والديه، فاحتضنه
قلبُ جدتِهِ قبل حُضنِها، تصلي الليلَ فيشعر بها، وتصوم النهارَ فتطعِمَهُ من
فُطورها قبل موعد الآذان، وربما حضر ليلةً متأخراً فآثرته بطعامٍ لها تشتهيه؛ رحمة
وإشفاقا به، ونامت جائعة...
وكم مرةٍ جاعتْ وأعطتكَ قوتَها ... حُنُوَّاً وإشفاقاً وأنتَ صغيرُ.
ينام
مبارك صغيراً في حضنها، فيستمع لكثرة ذكرِها، فربما ردَّد كثيراً من الأذكار
وحفِظَها.
وتمُرُّ
الأيامُ وتتعاقبُ الليالي، وهو من أسعد الناسِ عيشا، وأهنئِهم حياةً وأرفعِهم
مقاما، كيف لا وهو في رعايةِ الجدة - أمِّ الجميع - التي تأمر فيطاع أمرُها، وتتكلم
فيُسمَع لكلامها، وتقترح فيؤخذ باقتراحِها، فهل لأحدٍ أن يتعرض لابنِ بنتها وقُرةِ
عينها؟ هل لأحدٍ أن يُغضِبَهُ أو يتعرضَ له؟ لقد كانت تخاف عليه وتألم لألمه وتسهر
لمرضه، كأنها هي القائلة...
إذا ليلةٌ نابتك بالسقم لم أبت
... لذكرِك إلا ساهراً أتململ.
وتمرُّ
الأيامُ ويكبرُ الصغيرُ... فيخرج من المنزل ويعود.. تحيطُهُ الدعواتُ أينما ذهب؛ وما أعظمها من
دعوات؛ دعواتُ الجدِّة؛ التي كثيراً كثيراً ما خلت بربِّها في الثلثِ الأخيرِ من
الليل، كما هي عادةُ كثير ٍمن كِبَارِ السنِّ..
فدونَك فارغبْ في عميمِ دعائِها فأنتَ لِما تدعـو إليـه
فقيـرُ.
وتمضي
السنينُ والحبُّ في غالِبِهِ للغالي مبارك، وما بقي من حبٍّ تقاسمَهُ أخوالُهُ، ولا
ضيرَ لديهم في سبيل رضا أُمِّهِم!!
ومع
هذا الحبِّ الكبير من الجدَّةِ إلا أن أمرَ الصلاة في المسجد كان عندها من
المُهمَّات التي لا يمكن الإخلالُ بها، فكان مبارك حريصاً على قلبِ جدَّتِه وإسعادِها -
بعد رضا ربه - بالمداومة على الصلاة جماعة، فكان لذلك أثرُه الكبير في حياته
مستقبلا.
لقد
كان مبارك منذ صغره سهلاً هيناً خدوماً محبوباً من الجميع، قلَّ أن يعرفَه أحدٌ
فلا يُحِبُّه، يعيش في محيط أعمامه وأخواله وبني
عمومته، وكثيراً ما يكون في مهمةٍ لخدمةِ أحدهم، ومن أجملِ الكلمات التي تفرَّد بها
مبارك، وتميز بها عن غيره إجابتُه وردُّه على من يناديه بكلمة ((لبيه))؛ فهو من
أكثرِ الشباب في محيطة يستخدمها، وقلَّ أن تسمعَه يجيب من يناديه من أهلِهِ وذويه
بغيرها، حتى لكأنها ماركةٌ مسجلةٌ باسم مبارك.
كنت
أرتاح عندما أوصيه بإنجازِ أمرٍ ما؛ لعلمي بإتقانه للعمل، فكنتُ كلما أردتُ أن
أبعثَ أحداً في حاجةٍ مهمة تذكرتُ قولَ الشاعر...
إذا كنتَ في حاجةٍ مرسلا ... فأرسِل حكيماً ولا توصِهِ.
فأنادي..
أين مبارك؟ ولو كان أبنائي كلُّهم حولي.
وكان
من أدبه وحُسنِ خُلُقِهِ وانضباطِه قلةُ وقوعِهِ في الأخطاء، إلا أنه يبقى بشرا،
ولذلك عندما يخطئ يتقبل العقابَ بصدرٍ رحب، ولا يحملُ في قلبِهِ على مؤدِبِه، وقد
أُعاتِبه وأغضبُ عليه وأُعنِّفه في خطأ ما، فيقع قلمي على الأرض، فينزل إلى الأرض
سريعا قبلي فيأخذُ القلمَ ويمسحه ثم يضعه في جيبي... فأصرف وجهي عنه وأذهب في
الاتجاه الآخر.
من
النادر أن يطلب مبارك نقوداً من أحدٍ حياءً وأدبا، وإن سألتَه أخبرَكَ بعدمِ حاجته، مع
علمنا عن طريق الوالدة( الجدَّة) برغبته في بعض المال لشراء حاجةٍ ملِحة.
لقد
كان مبارك أخاً لأبنائنا محباً لهم، وقـد بادلوه الحُبَّ وصادقوه، يبحثـون عنه ويجالسونـه
كثيرا ويخدمونه، ويدافعون عنه، ويبينون لنا
أموراً تخصُّهُ لم نكن نعرفُها قبل ذلك؛ لنعينه عليها.
حاولتُ
في أحدِ الأيام وأنا اعتصر الذاكرة، وأسترجع الأحداثَ والمواقفَ الماضية، البحثَ عن
موقفٍ واحدٍ فقط قال لي ( لا ) أو اعتذر عندما كنتُ أوصيه أو أبعثه في أمرٍ ما فلم
أجد... بل إنِّي أظنُّ أنه لم يقلْ ذلك لأحدٍ من أقارِبِهِ وذوي رحمه وأصدقائه، بل حتى وهو مشغولٌ في أمرٍ يخصُّه يقول لمن يطلبه حاجة.. أبشر... سأنتهي عاجلا من عملٍ
لديَّ وسأفرغ لك...
ما
أجمل خدمةّ مبارك ونفعَه لنا جميعا.. والأروعُ من ذلك جمالُ روحِهِ وروعةُ
ابتسامته.. يُشعِرُك بعد أداءِ مهمتِهِ من خلال قسمات وجهه... بأنك أنت المنعم المتفضل.
وانتهى
مبارك من المرحلة الثانوية، وتهيأت له الفرصةُ للدراسة خارج حدودِ الوطن بعيداً عن
الحضن الدافئ الذي كان له دائما كالحصن العالي، والدرع الواقي؛ الذي يرُدُّ عنه كلَّ
سهامِ الدنيا، وقد مكثنا وقتا في إقناعِ الجدَّةِ بأهميةِ سفر مبارك، وأن هذه
فرصة، قد لا تتكرر.. وتتوافق الجدة بعد إلحاح.
ويحين
موعدُ سفر مبارك للمرة الأولى ورحيله عن جوار جدته، واسمحوا لي سأتجاوز وداعَ مبارك لجدَّتِهِ... وأدعُ التفاصيلَ لكم...لكني أُجمِلها لكم في قول الشاعر:
يعِزُّ عليَّ حينَ أُديـرُ عينِي
... أُفتِّشُ في مكانك لا أراكا.
وقولِ
الآخَـر....
يا غائبينَ وفي الفـؤادِ لبعدِهِـم
... نارٌ لها بيـن الضُلوعِ ضِرامُ.
ويودع
مبارك الجميع، وللحق فقد كنتُ أتمالكُ نفسي في مثلِ هذِهِ المواقف، لكن في وداع
مبارك اختلف الأمرُ، فقد انهمرت الدموعُ بكثافةٍ لم تكن معتادة، لكنني قد غفرت
لعينيَّ ما انهمر منهما، فالمسافر يستحق أكثر وأكثر...
إنِّـــي أُحِبُّــكَ أمــرٌ
لا خفــاءَ بــــــه فسلْ فـؤادِي تجِــدْهُ
اليــومَ قـد نطقا
وسلْ عيونِي وكمْ في
العينِ من لُغةٍ تُبِينُ وجدَ الجوى فـي شوقِهِ احترَقا
وتمضي
الأيامُ.. ويعود مبارك في كلِّ إجازة، ولا أخفيكم سِرَّاً أنَّ مبارك في أثناء عودته
لوطنه كان الجميع يتسابق لإكرامه، ولا يرضى أحدٌ باعتذاره؛ محبةً له وتقديراً
وإجلالا.
وفي
إجازته الأخيرة قلَّ أن تجد مبارك في الخرج! وإن سألتَ عنه، قيل هو في الرياض
لماذا؟ إنه الحُبُّ والوفاءُ في أسمى
معانيه (فالحرُّ من راعى وِدادَ لحظة)، والوفاء صفة الرجال، وفريضة على الكرام... إنَّ الوفاءَ على
الكريمِ فريضةٌ واللؤمَ مقرونٌ بذِي الإخلافِ.
لقد
كان أكثرَ وقته في الرياض بجوارِ الجسدِ الذي طالما احتضنَه، وقريباً من الروحِ التي طالما
أحبتْه ُورافقته، وضحَّتْ من أجلِهِ، يسافر مبارك أغلبَ الأيامِ؛ ليكونَ قريباً من جدَّتِهِ التي تقيمُ في الرياض ِللعلاج من تعب ألمَّ بها(شفاها الله وعافاها).
وفي
ظهر يوم الاثنين الموافق 24/11/1434هـ غادر مبارك وطنه من الرياض بعد أن بات
ليلته الأخيرة قريباً من حضنِهِ الدافئ، وذكرياته الجميلة؛ بجوار جدته، سافر محاطا
بالدعوات؛ ليمضي أشهراً قليلةً عاد بعدها إلى وطنه بعد أن أنهى مشوار دراسته، رجع في
شهر رجب من عام 1435هـ، يحمل وثيقة تخرجه مع مرتبة الشرف.
لقد
كان مبارك فيما مضى يسافر ويبتعد بجسده فقط... لكنَّ محبتَهُ تبقى في قلوبِ الكثيرِ، ويبقي
ذِكرُهُ الحسنُ نردِّدُهُ كلَّما حضرتْ سيرتُهُ، يتبعه دعاءٌ صادقٌ، تُرفعُ به الأكفُ، وتَلهَجُ به الألسنُ... ويردد محبوهُ قولَ
الشاعر...
وإن يكُ عن لقائِك غابَ
وجهي ... فلـم تغِـبْ المـودّةُ
والإخاءُ
ولم يغِـبْ الثّنــاءُ
عليـــك منِّــي ... بظهرِ الغيبِ يتبعهُ
الدّعاءُ
أيها
الشامخ مبارك... وأنت تصعد سُلَّمَ الطائرة للمرة الأولى؛ لتخطو أولى درجات المجد يشرفني
أن أقول لك مفتخرا بك... لقد كنتَ رجلاً في طفولتك وصِباكَ وشبابِك؛ عِشتَ
رافعاً رأسَكَ شامخا، لم تهزُّك رياحُ الوحدة، وبُعْدُ الوالدين، ولم تنحنِ لأعاصيرِ الفقدِ والحرمان، بل لم تُلقِ لها بالا.
أيها
الشامخ مبارك... لقد كنت رجلاً عندما لم تسمحْ لنفسك الأمارةِ باختلاقِ الأعذار
لتأخذك بعيداً عن النجاحِ والتفوق؛ لتعيشَ حياةَ الكسلِ والإحباطِ والاختباءِ خلفَ
أسوارِ الفشل، بل جعلتَ بُعدَك عن أغلى الناسِ لديك
محفِّزاً؛ للرُقِيِّ صُعُدَاً في سُلَمِ المجد.
مبارك...
إذا عُدتَ لوطنك فثِقْ بربك... واطمئن، فمثلك - نحسبك كذلك ولا نزكي على الله أحدا -
سيحفظه اللهُ، ويفتح له أبوابَ الخير.. فلم أدخل المسجدَ يوما من الأيام إلا وأنت
في روضتِهِ تتلو كتاب َاللهِ وتتدبر آياتِهِ، عندها
أتذكر حديثَ المصطفى صلى الله عليه وسلم (ورجلٌ قلبُهُ معلقٌ بالمساجد).
مبارك...
إذا عُدت لوطنك فثق بمولاك.. فقد كان الشبابُ من أقرانك وأصدقائك
وبني عمومتك في شهر رمضان الماضي يُمضُون الليالي؛ يأنسون ويسهرون مع بعضهم فيما
أباحه الله، وأنت تأنسُ بربِّك فيما يحبُّهُ الله؛ معتكفا العشرَ الأواخر في بيت الله...
تدعوه وتناجيه، وتتلو كلامَه، وتسجد بين يديه.
شكرا
مبارك... فقد علمتنا دروساً في الحبِّ والصبرِ والشموخِ والأنفة.
شكرا
مبارك... فقد كنت إيجابياً مع نفسك وأهلِك وزملائِك وأصدقائِك.
شكرا
مبارك... فقد علمتَنا الوفاءَ في أسمى معانيه؛ لقد كنت وفياً لمن أحبتْكَ واحتضنتكَ، وآثرتكَ ووهبتكَ جُلَّ حياتِها.
شكرا
مبارك... فمثلُك يستحق أن يكونَ مثلا يُقتدى، وأُنموذجا يحُتذى.
شكرا
مبارك... عندما جعلتَ المصطفى صلى الله عليه وسلم قدوتَك؛ فقد عاش حبيبُك صلى الله
عليه وسلم بعيدا عن أمِّهِ وأبيه... فكان هو نبيَ الأمة، والرحمةَ المهداة للناس
أجمعين.
وبعـــد... فما سبق من كلماتٍ وعبارات وجهتها لــ مبارك، وخاطبته بها، هي كذلك رسالة أوجهها وأخاطب بها الكثير ممن
مرَّت به ظروفٌ مماثلة نقول لهم:
* اعلموا ن نافذةَ الأمل واسعةٌ أمامَكم، تُطِلُّ بكم على جمالِ مستقبلكم، وتستطيعون من
خلالها أن تشمُّوا عبير التفوق، وعبق التميز؛ فقط... ثقوا بربكم.
* اعلموا أن اقتحامَ مجالاتِ الحياةِ بعزمٍ وإرادةٍ، ونفسٍ راضيةٍ هي البابُ الذي ستزلفون من خلاله لقطف ما ترونه من ثمرات يانعة في جوانب متعددة من حياتكم، من خلال نافذة الأمل الواسعة، وعندها ستتحقق - بإذن الله - جميعُ آمالِكم وطموحاتِكم.
ما
أحوجنا إلى هذه النوعية الرائعة من الشباب المكافح، يُدخِلون البهجة والسعادةَ في
حياتنا، ويزرعون البسمةَ في شفاهنا،
ويمثلون القدوةَ الحسنةَ لأبنائنا...فقط نحبُّهم... ثم نحبُّهم، ونثقُ فيهم، ونفتحُ
قلوبَنا لهم.
أخيرا....
فإنَّ
في حياةِ الكثيرِِ من النَّاسِ...ابناً لم تلدْه زوجتُهُ... أو أخاً لم
تلِدْه أمُّهُ ... أو
صديقاً ضحى من أجلِهِ... أو أُمَّاً غير أُمِّهِ احتضنته... أو أباَ غير والِدِهِ
رعاه ... وفي
حياة الكثيرِ منَّا أسماءٌ شامخةٌ، لها بصمتُها
التي لا تُنسى بمرورِ الزمن، وتعاقُبِ الأيام....
لكن في حياتــــي أنا يبقى مبارك ( ابني الذي أنجبته أُختي).
لكن في حياتــــي أنا يبقى مبارك ( ابني الذي أنجبته أُختي).
بقلم/
د. فهد بن منصور
الدوسري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق