الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016




ابني الذي أنجبَتهُ أُختي

لا شك أن كلَّ أبٍ في هذه الدنيا يُسعِده ما يجده من أولاده من نفعٍ وطاعةٍ، وامتثالٍ لما يأمر به وانضباطٍ وأدبٍ في تعاملهم معه، وصبرٍ وتحمُلٍ لما يحصل منه من شِدةٍ وقسوة، قد يضطرُّ لها في أوقاتٍ متفرقة، وغيرِها الكثير من صُورِ بِرِّ الأولاد بآبائهم التي لا تخفى.
وكلُّ ما سبق أمرٌ واجب، لا يُستغربُ حدوثُهُ، ويحصلُ كثيراً في مجتمعنا الإسلامي الذي يؤمن بالكتاب والسنة، التي تأمر المسلمَ ببرِّ الوالدين وطاعتِهما والتحذيرِ من العقوقِ تجاههما.
لكن أن يتحقق البِرُّ في أزهى صُوَرِه وأجملِ معانيه من شخصٍ تجاهك؛ هذا الإنسانُ لا ينتمي لأُسرتِك ولا يوجد اسمُهُ في سجلِّ العائلةِ الخاصِ بك فهذا الذي يحتاج لوقفة.
هذا الإنسانُ البارُّ الذي أفردتُ له هذا المقال، له من اسمه نصيب، أطلق عليه والداه اسم مبارك فكان مباركاً في مراحل حياته كلِّها؛ تلك الحياة التي عاشها بعيدا عن والديه، فاحتضنه قلبُ جدتِهِ قبل حُضنِها، تصلي الليلَ فيشعر بها، وتصوم النهارَ فتطعِمَهُ من فُطورها قبل موعد الآذان، وربما حضر ليلةً متأخراً فآثرته بطعامٍ لها تشتهيه؛ رحمة وإشفاقا به، ونامت جائعة...
وكم مرةٍ جاعتْ وأعطتكَ قوتَها ... حُنُوَّاً وإشفاقاً وأنتَ صغيرُ.
ينام مبارك صغيراً في حضنها، فيستمع لكثرة ذكرِها، فربما ردَّد كثيراً من الأذكار وحفِظَها.
وتمُرُّ الأيامُ وتتعاقبُ الليالي، وهو من أسعد الناسِ عيشا، وأهنئِهم حياةً وأرفعِهم مقاما، كيف لا وهو في رعايةِ الجدة - أمِّ الجميع - التي تأمر فيطاع أمرُها، وتتكلم فيُسمَع لكلامها، وتقترح فيؤخذ باقتراحِها، فهل لأحدٍ أن يتعرض لابنِ بنتها وقُرةِ عينها؟ هل لأحدٍ أن يُغضِبَهُ أو يتعرضَ له؟ لقد كانت تخاف عليه وتألم لألمه وتسهر لمرضه، كأنها هي القائلة...
إذا ليلةٌ نابتك بالسقم لم أبت ... لذكرِك إلا ساهراً أتململ.
وتمرُّ الأيامُ ويكبرُ الصغيرُ... فيخرج من المنزل ويعود.. تحيطُهُ الدعواتُ أينما ذهب؛ وما أعظمها من دعوات؛ دعواتُ الجدِّة؛ التي كثيراً كثيراً ما خلت بربِّها في الثلثِ الأخيرِ من الليل، كما هي عادةُ كثير ٍمن كِبَارِ السنِّ..  
فدونَك فارغبْ في عميمِ دعائِها        فأنتَ لِما تدعـو إليـه فقيـرُ.
وتمضي السنينُ والحبُّ في غالِبِهِ للغالي مبارك، وما بقي من حبٍّ تقاسمَهُ أخوالُهُ، ولا ضيرَ لديهم في سبيل رضا أُمِّهِم!!
ومع هذا الحبِّ الكبير من الجدَّةِ إلا أن أمرَ الصلاة في المسجد كان عندها من المُهمَّات التي لا يمكن الإخلالُ بها، فكان مبارك حريصاً على قلبِ جدَّتِه وإسعادِها - بعد رضا ربه - بالمداومة على الصلاة جماعة، فكان لذلك أثرُه الكبير في حياته مستقبلا.
لقد كان مبارك منذ صغره سهلاً هيناً خدوماً محبوباً من الجميع، قلَّ أن يعرفَه أحدٌ فلا يُحِبُّه، يعيش في محيط أعمامه وأخواله وبني عمومته، وكثيراً ما يكون في مهمةٍ لخدمةِ أحدهم، ومن أجملِ الكلمات التي تفرَّد بها مبارك، وتميز بها عن غيره إجابتُه وردُّه على من يناديه بكلمة ((لبيه))؛ فهو من أكثرِ الشباب في محيطة يستخدمها، وقلَّ أن تسمعَه يجيب من يناديه من أهلِهِ وذويه بغيرها، حتى لكأنها ماركةٌ مسجلةٌ باسم مبارك.
كنت أرتاح عندما أوصيه بإنجازِ أمرٍ ما؛ لعلمي بإتقانه للعمل، فكنتُ كلما أردتُ أن أبعثَ أحداً في حاجةٍ مهمة تذكرتُ قولَ الشاعر...
إذا كنتَ في حاجةٍ مرسلا ... فأرسِل حكيماً ولا توصِهِ.
فأنادي.. أين مبارك؟ ولو كان أبنائي كلُّهم حولي.
وكان من أدبه وحُسنِ خُلُقِهِ وانضباطِه قلةُ وقوعِهِ في الأخطاء، إلا أنه يبقى بشرا، ولذلك عندما يخطئ يتقبل العقابَ بصدرٍ رحب، ولا يحملُ في قلبِهِ على مؤدِبِه، وقد أُعاتِبه وأغضبُ عليه وأُعنِّفه في خطأ ما، فيقع قلمي على الأرض، فينزل إلى الأرض سريعا قبلي فيأخذُ القلمَ ويمسحه ثم يضعه في جيبي... فأصرف وجهي عنه وأذهب في الاتجاه الآخر.
من النادر أن يطلب مبارك نقوداً من أحدٍ حياءً وأدبا، وإن سألتَه أخبرَكَ بعدمِ حاجته، مع علمنا عن طريق الوالدة( الجدَّة) برغبته في بعض المال لشراء حاجةٍ ملِحة.
لقد كان مبارك أخاً لأبنائنا محباً لهم، وقـد بادلوه الحُبَّ وصادقوه، يبحثـون عنه ويجالسونـه كثيرا ويخدمونه، ويدافعون عنه، ويبينون لنا أموراً تخصُّهُ لم نكن نعرفُها قبل ذلك؛ لنعينه عليها.
حاولتُ في أحدِ الأيام وأنا اعتصر الذاكرة، وأسترجع الأحداثَ والمواقفَ الماضية، البحثَ عن موقفٍ واحدٍ فقط قال لي ( لا ) أو اعتذر عندما كنتُ أوصيه أو أبعثه في أمرٍ ما فلم أجد... بل إنِّي أظنُّ أنه لم يقلْ ذلك لأحدٍ من أقارِبِهِ وذوي رحمه وأصدقائه، بل حتى وهو مشغولٌ في أمرٍ يخصُّه يقول لمن يطلبه حاجة.. أبشر... سأنتهي عاجلا من عملٍ لديَّ وسأفرغ لك...
ما أجمل خدمةّ مبارك ونفعَه لنا جميعا.. والأروعُ من ذلك جمالُ روحِهِ وروعةُ ابتسامته.. يُشعِرُك بعد أداءِ مهمتِهِ من خلال قسمات وجهه... بأنك أنت المنعم المتفضل.
وانتهى مبارك من المرحلة الثانوية، وتهيأت له الفرصةُ للدراسة خارج حدودِ الوطن بعيداً عن الحضن الدافئ الذي كان له دائما كالحصن العالي، والدرع الواقي؛ الذي يرُدُّ عنه كلَّ سهامِ الدنيا، وقد مكثنا وقتا في إقناعِ الجدَّةِ بأهميةِ سفر مبارك، وأن هذه فرصة، قد لا تتكرر.. وتتوافق الجدة بعد إلحاح.
ويحين موعدُ سفر مبارك للمرة الأولى ورحيله عن جوار جدته، واسمحوا لي سأتجاوز وداعَ مبارك لجدَّتِهِ... وأدعُ التفاصيلَ لكم...لكني أُجمِلها لكم في قول الشاعر:
يعِزُّ عليَّ حينَ أُديـرُ عينِي ... أُفتِّشُ في مكانك لا أراكا.
وقولِ الآخَـر....
يا غائبينَ وفي الفـؤادِ لبعدِهِـم ... نارٌ لها بيـن الضُلوعِ ضِرامُ.
ويودع مبارك الجميع، وللحق فقد كنتُ أتمالكُ نفسي في مثلِ هذِهِ المواقف، لكن في وداع مبارك اختلف الأمرُ، فقد انهمرت الدموعُ بكثافةٍ لم تكن معتادة، لكنني قد غفرت لعينيَّ ما انهمر منهما، فالمسافر يستحق أكثر وأكثر...
إنِّـــي أُحِبُّــكَ أمــرٌ لا خفــاءَ بــــــه      فسلْ فـؤادِي تجِــدْهُ اليــومَ قـد نطقا
وسلْ عيونِي وكمْ في العينِ من لُغةٍ      تُبِينُ وجدَ الجوى فـي شوقِهِ احترَقا
وتمضي الأيامُ.. ويعود مبارك في كلِّ إجازة، ولا أخفيكم سِرَّاً أنَّ مبارك في أثناء عودته لوطنه كان الجميع يتسابق لإكرامه، ولا يرضى أحدٌ باعتذاره؛ محبةً له وتقديراً وإجلالا.
وفي إجازته الأخيرة قلَّ أن تجد مبارك في الخرج! وإن سألتَ عنه، قيل هو في الرياض لماذا؟ إنه الحُبُّ والوفاءُ في أسمى معانيه (فالحرُّ من راعى وِدادَ لحظة)، والوفاء صفة الرجال، وفريضة على الكرام... إنَّ الوفاءَ على الكريمِ فريضةٌ     واللؤمَ مقرونٌ بذِي الإخلافِ.
لقد كان أكثرَ وقته في الرياض بجوارِ الجسدِ الذي طالما احتضنَه، وقريباً من الروحِ التي طالما أحبتْه ُورافقته، وضحَّتْ من أجلِهِ، يسافر مبارك أغلبَ الأيامِ؛ ليكونَ قريباً من جدَّتِهِ التي تقيمُ في الرياض ِللعلاج من تعب ألمَّ بها(شفاها الله وعافاها).
وفي ظهر يوم الاثنين الموافق 24/11/1434هـ غادر مبارك وطنه من الرياض بعد أن بات ليلته الأخيرة قريباً من حضنِهِ الدافئ، وذكرياته الجميلة؛ بجوار جدته، سافر محاطا بالدعوات؛ ليمضي أشهراً قليلةً عاد بعدها إلى وطنه بعد أن أنهى مشوار دراسته، رجع في شهر رجب من عام 1435هـ، يحمل وثيقة تخرجه مع مرتبة الشرف.
لقد كان مبارك فيما مضى يسافر ويبتعد بجسده فقط... لكنَّ محبتَهُ تبقى في قلوبِ الكثيرِ، ويبقي ذِكرُهُ الحسنُ نردِّدُهُ كلَّما حضرتْ سيرتُهُ، يتبعه دعاءٌ صادقٌ، تُرفعُ به الأكفُ، وتَلهَجُ به الألسنُ... ويردد محبوهُ قولَ الشاعر...
وإن يكُ عن لقائِك غابَ وجهي ... فلـم تغِـبْ المـودّةُ والإخاءُ
ولم يغِـبْ الثّنــاءُ عليـــك منِّــي ... بظهرِ الغيبِ يتبعهُ الدّعاءُ
أيها الشامخ مبارك... وأنت تصعد سُلَّمَ الطائرة للمرة الأولى؛ لتخطو أولى درجات المجد يشرفني أن أقول لك مفتخرا بك... لقد كنتَ رجلاً في طفولتك وصِباكَ وشبابِك؛ عِشتَ رافعاً رأسَكَ شامخا، لم تهزُّك رياحُ الوحدة، وبُعْدُ الوالدين، ولم تنحنِ لأعاصيرِ الفقدِ والحرمان، بل لم تُلقِ لها بالا.
أيها الشامخ مبارك... لقد كنت رجلاً عندما لم تسمحْ لنفسك الأمارةِ باختلاقِ الأعذار لتأخذك بعيداً عن النجاحِ والتفوق؛ لتعيشَ حياةَ الكسلِ والإحباطِ والاختباءِ خلفَ أسوارِ الفشل، بل جعلتَ بُعدَك عن أغلى الناسِ لديك محفِّزاً؛ للرُقِيِّ صُعُدَاً في سُلَمِ المجد.
مبارك... إذا عُدتَ لوطنك فثِقْ بربك... واطمئن، فمثلك - نحسبك كذلك ولا نزكي على الله أحدا - سيحفظه اللهُ، ويفتح له أبوابَ الخير.. فلم أدخل المسجدَ يوما من الأيام إلا وأنت في روضتِهِ تتلو كتاب َاللهِ وتتدبر آياتِهِ، عندها أتذكر حديثَ المصطفى صلى الله عليه وسلم (ورجلٌ قلبُهُ معلقٌ بالمساجد).
مبارك... إذا عُدت لوطنك فثق بمولاك..  فقد كان الشبابُ من أقرانك وأصدقائك وبني عمومتك في شهر رمضان الماضي يُمضُون الليالي؛ يأنسون ويسهرون مع بعضهم فيما أباحه الله، وأنت تأنسُ بربِّك فيما يحبُّهُ الله؛ معتكفا العشرَ الأواخر في بيت الله... تدعوه وتناجيه، وتتلو كلامَه، وتسجد بين يديه.
شكرا مبارك... فقد علمتنا دروساً في الحبِّ والصبرِ والشموخِ والأنفة.
شكرا مبارك... فقد كنت إيجابياً مع نفسك وأهلِك وزملائِك وأصدقائِك.
شكرا مبارك... فقد علمتَنا الوفاءَ في أسمى معانيه؛ لقد كنت وفياً لمن أحبتْكَ واحتضنتكَ، وآثرتكَ ووهبتكَ جُلَّ حياتِها.
شكرا مبارك... فمثلُك يستحق أن يكونَ مثلا يُقتدى، وأُنموذجا يحُتذى.
شكرا مبارك... عندما جعلتَ المصطفى صلى الله عليه وسلم قدوتَك؛ فقد عاش حبيبُك صلى الله عليه وسلم بعيدا عن أمِّهِ وأبيه... فكان هو نبيَ الأمة، والرحمةَ المهداة للناس أجمعين.
وبعـــد... فما سبق من كلماتٍ وعبارات وجهتها لــ مبارك، وخاطبته بها، هي كذلك رسالة أوجهها وأخاطب بها الكثير ممن مرَّت به ظروفٌ مماثلة نقول لهم:
* اعلموا ن نافذةَ الأمل واسعةٌ أمامَكم، تُطِلُّ بكم على جمالِ مستقبلكم، وتستطيعون من خلالها أن تشمُّوا عبير التفوق، وعبق التميز؛ فقط... ثقوا بربكم.
* اعلموا أن اقتحامَ مجالاتِ الحياةِ بعزمٍ وإرادةٍ، ونفسٍ راضيةٍ هي البابُ الذي ستزلفون من خلاله لقطف ما ترونه من ثمرات يانعة في جوانب متعددة من حياتكم، من خلال نافذة الأمل الواسعة، وعندها ستتحقق - بإذن الله - جميعُ آمالِكم وطموحاتِكم.
ما أحوجنا إلى هذه النوعية الرائعة من الشباب المكافح، يُدخِلون البهجة والسعادةَ في حياتنا، ويزرعون البسمةَ في شفاهنا، ويمثلون القدوةَ الحسنةَ لأبنائنا...فقط نحبُّهم... ثم نحبُّهم، ونثقُ فيهم، ونفتحُ قلوبَنا لهم.
أخيرا....
فإنَّ في حياةِ الكثيرِِ من النَّاسِ...ابناً لم تلدْه زوجتُهُ... أو أخاً لم تلِدْه أمُّهُ ... أو صديقاً ضحى من أجلِهِ... أو أُمَّاً غير أُمِّهِ احتضنته... أو أباَ غير والِدِهِ رعاه ... وفي حياة الكثيرِ منَّا أسماءٌ شامخةٌ، لها بصمتُها التي لا تُنسى بمرورِ الزمن، وتعاقُبِ الأيام....
 لكن في حياتــــي أنا  يبقى مبارك ( ابني الذي أنجبته أُختي).


بقلم/
د. فهد بن منصور الدوسري

الجمعة، 28 أكتوبر 2016




ذكرياتي 
مع الشيخ عبد الرحمن بن علي الصغير رحمه الله
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين... وبعد

 بعد وفاة الشيخ عبد الرحمن بن علي الصغير عزمت أن أكتبَ بعضاً مما عرفتُهُ عن فضيلته من أخلاقٍ كريمةٍ، وسجايا حميدة، تخلَّق بها الشيخُ طيلة حياته، وتأثر بها من عرفه؛ وكذا جهوده في الدعوة إلى الله عز وجل من خلال حضوري لدروسه - رحمه الله - في سنوات مضت في جامع العزيزية (الأمير سلطان بالخرج)، وهو جزء من حقوق الشيخ رحمه الله على تلاميذه ومحبيه؛ ليتأسى ويقتدي به الناس والدعاة إلى الله عز وجل.

كانت الصلاة على الشيخ عبد الرحمن عقب صلاة العصر من يوم الخميس الموافق25/11 /1433هـ بجامع الراجحي، ودفن بمقبرة النسيم بمدينة الرياض، وبعد أيام من وفاةِ الشيخ اتصل بي الأخُ الفاضل محمد بن غازي الحربي -أحد جيران الشيخ وجلسائه والمرافقين له في بعض أسفاره- يخبرني مبشرا وناقلا عن أحد أبناء الشيخ عبارة الشيخ عبدالرحمن التي كان يرددها قبل وفاته، عند نقله إلى المستشفى قبيل أذان الفجر، حيث كان يردد: (اللهم أنت السلام ومنك السلام ).

بعد سماعي لذلك الذكر الذي ختم به الشيخ حياتَه، واستقبل به آخرته، تأثرت لهذه الخاتمة وفرحتُ واتجهت إلى مكتبتي الخاصة؛ استرجع بعضا من ذكرياتي مع الشيخ رحمه الله، أبحث عن أول كتابين من كتب العلماء عرفتهما في حياتي؛ أبحث عن تفسير ابن كثير وفتح الباري، فوجدت واحداً منهما وهو فتح الباري، وأما تفسير ابن كثير فلم أجده، فتذكرت أنني سافرت به، وقبل رجوعي أهديته مع بعض الكتب لإحدى المكتبات هناك.

أغلقت عليَّ باب مكتبتي، وجلست بمفردي، وأخذتُ جميعَ مجلداتِ كتاب فتح الباري، وعددها ثلاثة عشر مجلدا - طبعة دار الفكر - وبدأت أتصفح كثيراً من الأوراق، وأقفُ عند كلِّ ورقه بها تعليقٌ أو تاريخٌ مكتوب، فإذا بتعليقات الشيخ على جنبات الكتاب، وكلما فتحتُ مجلداً رجعتْ بي الذاكرة إلى زمن جميل من حياتي، إلى أكثر من عقدين من الزمن، فقد رأيت الكثيرَ من التواريخ في نهاية بعض أبواب كتاب الفتح، وكان أول أو أقدم تاريخ كنت قد كتبته هو: (يوم السبت - الموافق 1/3/1410هـ - كتاب البيوع - المجلد الرابع - ص: 350).

ومن التواريخ أيضا (السبت- 14/6/1413هـ - المجلد 11 - كتاب الدعوات - ص 144)، وفي موضع آخر وجدتُ مكتوباً (الثلاثاء 16/2/1417هـ - الساعة 8:20 دقيقة)، وأظنه وقت أذان العشاء؛ لأن الدرس ينتهي عند أذان العشاء.
لقد كانت دروس الشيخ في يومي السبت والثلاثاء، وكانت الكتب التي تقرأ على الشيخ هما (تفسير ابن كثير ، وفتح الباري)، في جامع الأمير سلطان رحمه الله - العزيزية سابقا.

لقد اتصف الشيخ رحمه الله بأخلاق جميلة، وخصالٍ حميدة، يشهد بذلك كلُّ من عرفه، لكن ماذا عساي أن أقول عن الشيخ؟ وبم أبدأ؟ ومن أين؟


** ابتسامةُ الشيخ وطلاقة وجهه:

سأبدأ بابتسامة الشيخ المعهودة التي تعلو محياه عند استقباله لتلاميذه وضيوفه، بل كان لصغار السن من الأطفال النصيب الكبير من تلك الابتسامة؛ فكثيرا ما كان يداعبهم وهو يبتسم لهم، ثم عندما يأنس الطفل ويرتاح للشيخ يسأله بعضَ الأسئلة في العقيدة - التي تناسب أعمارهم - وكم كانت فرحته عندما يجيب الطفل!

إنك عندما تقابل الشيخ في أي موقع ترى ابتسامةً عريضة تملأ وجهه؛ تشجع الكبار على السؤال في أمور دينهم، وتمنح الشباب الثقة والطمأنينة، فيكشفوا بعضاً من معاناتهم وأسرارهم للشيخ، فيقف معهم ويساعدهم ويأخذ بأيديهم، ولا أُذيع سِرَّاً إن قلتُ أنَّ كلَّ من يلتقي الشيخ يظن أنه هو المقدم عنده، وصاحب الحظوة لدىيه بسبب تلك الابتسامة التي يقابل بها الآخرين!

** زهدُ الشيخِ وتواضُعه:

كم كان الشيخ عبدالرحمن زاهدا متواضعا في هيئته ولباسه، لكنه والله كان يمثل الجمالَ بمعناه الحقيقي؛ بما يحملـه من العلم والأدب، وحسن المعاملة، والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، وكأنـه يقـول للناس... 

ليس الجمال بأثواب تزيننا    إن الجمال جمال العلم والأدب

** وفاءُ الشيخِ وحفظه للجميل:

كلما عدتُ بذاكرتي بعيدا إلى تلك السنوات الجميلة؛ لأسترجع بعضاً مما كان يتصف به الشيخ رحمه الله من جميل السجايا أتذكر وفاءه، وما أجمل وفاء الشيخ؛ ترى ذلك عندما يقابلك بعد غيبة فيسأل عن فلان بن فلان، ثم يقول كان لذلك الرجل موقف معي لا يمكن أن أنساه، ثم تنساب الدعوات من الشيخ وهو يرفع يديه، وفي أحيان كثيرة ينحرف مستقبلا القبلة، متمثلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فصلوا عليه) أي: ادعوا له.

وجربنا و جرب أوَّلونا   فلا شيءٌ أعز من الوفاء.


وكيف لا يحب الشيخُ الوفاءَ وهو يعلم أن إمَامَه محمداً صلى الله عليه وسلم كان المثلَ الأعلى والقدوةَ في الوفاء وحفظ الود، ليس مع المسلمين فقط بل حتى مع غيرِ المسلمين ممن لم يحارب الدعوة ؟ فقد وقـف عليه الصلاة والسلام ينظر إلى سبعين من أسرى المشركين يوم بدر فيقول (لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء الأسرى لتركتهم له) لماذا ؟ لأنه صلى الله عليه وسلم تذكر موقف المطعم بن عدي معه يوم أجاره بعد رجوعه من الطائف؛ حيث دخل يمشي بجانب النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام، يحيط به أبناؤه السبعة ليعلن لقريش أن محمدا في جواره، فتوقفت قريش عن إيذاء المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى هاجر للمدينة... قال حسان يمدح المطعم بن عدي:

فَلَوْ كَانَ مَجْدٌ يُخْلَدُ الدّهْـرَ وَاحـدًا   مِنْ النَّاسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمَا

أَجَرْتَ رَسُولَ اللّهِ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا   عَبِيــدَك مَا لَبّـــى مُهِـــلّ وَأَحْرَمَا


** صبرُ الشيخِ وتحمُّله الأذى:

صبرُ الشيخِ رحمه الله يظهر جليا في تحمُّلهِ الأذى واحتساب ما يصيبه عند الله وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكم من شخصٍ أخطأ على الشيخ بالقول أو الفعل فانصرف الشيخ وهو يدعو له لا يزيد على ذلك، فلا تمر سويعاتٌ أو أيامٌ قليلة إلا ويأتي ذلك الرجل يطلب العفو والصفح من الشيخ، وقد اغرورقت عيناه بالدموع، فيبتسم الشيخُ في وجهِهِ ويصافحه، وقد يصطحبه لمنزله، إنه التطبيق الفعلي لما تعلمه الشيخ، إنها المعاملة التي تعني الدِّينََ كلَّه.

إِنّي رَأَيتُ وَفي الأَيّامِ تَجرِبَةٌ     لِلصَبرِ عاقِبَةٌ مَحمودَةُ الأَثَرِ

لقد كان الشيخ يتعرض للأذية، وهذا أمر طبيعي لمن يدعو إلى الحق، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر لكنه كان يخفي كثيراً مما يصيبه - وهذا الأمر يعرفه أبناؤه والقريبون للشيخ - ومن المواقف في ذلك أنه كان يؤم المصلين في جامع الأمير سلطان رحمه الله - العزيزية سابقا - وكان قد تم تهيئةُ مكان مكشوف في غرب الجامع؛ لأداء الصلوات الجهرية أثناء اعتدال الجو، وفي أثناء أداء الصلاة رُمِي َالشيخُ ببيضةٍ، فوقعت على رأسِه، وسالت على وجهه، وبعد نهايةِ الصلاة لم يلتفت الشيخ مباشرة؛ ليمسح الأثرَ وهو في مكانه، ثم التفت إلى المصلين وقد لفَّ غترتَه على جزءٍ من وجهِهِ؛ لإخفاء ما قد يظهر على وجهِهِ، وأكمل الشيخُ الأذكار ولم يُخبِر أحداً بما حصل له، ولم يتنَّبه المصلون لذلك إلا من كان قريباً منه، فقد رأى بعضا من أثر البيض. 

إن الشيخ بهذا الصبر يتمثل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيستصغر ما أصابه؛ فإن نبي الهدى صلى الله عليه وسلم قد أصابه أعظم من ذلك حينما انبعث أشقى قريش - عقبةُ بنُ أبي معيط - بتشجيع عددٍ من زعماء الشرك في مكة، فأخذ سلا الجزور فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فلما سجد وضعه بين كتفيه، فسخر الحاضرون من صناديد قريش لهذا المنظر، وجعل بعضهم يميل على بعض من شدة الضحك، فانطلق إنسان فأخبر فاطمة رضي الله عنها فجاءت وهي جويرية فطرحته عنه صلى الله عليه وسلم، فاستقبلهم صلى الله عليه وسلم فدعى عليهم، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه في أولئك النفر من صناديد قريش (فأشهد بالله لقد رأيتهم - بعد نهاية معركة بدر- صرعى قد غيرتهم الشمس، وكان يوماً حاراً)، يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه يصف قتلى المشركين وهم يُسحبُون، ويُلقَون في طَويٍّ خبيثٍ مُخبِث من أطواءِ بدر:

يُنَادِيهـم رَسُــــولُ الله لمَّــــا     قَذَفنَاهُـمْ كَبَاكِبَ فِي القَلِيــــبِ
أَلَمْ تَجِـدُوا كَلَامِي كَانَ حَقَّــا     وَأَمْرُ اللّهِ يَأْخُذُ بِالْقُلُـــــــــوبِ؟

فَمَا نَطَقُوا وَلَوْ نَطَقُوا لَقَالُـوا     صَدَقْتَ وَكُنْتَ ذَا رَأْيٍ مُصِيبِ

وإني لأُحدِّثُ نفسي أحياناً كيف يمكن للشيخ عبدالرحمن رحمه الله أن يكون بهذه النفس الراضية بما أصابها من الأذى، ومن التسامح، والدعاء لمن آذاه؟ إلا أن يكونرحمه الله قد وجد لذةً وراحةً لما يصيبه في سبيل الله بتشبُّهِهِ بالمصطفى صلى الله عليه وسلم!

** الشيخ وحقوق الجار:

من المواقف التي لا زالت عالقة في مخيلتي، وعلمتني الكثير فيما يجب في حقِّ الجار ووجوب تحمله، والصبر على أذاه، أننا كنا في أحد الأيام بعد صلاة العصر في مجلسه رحمه الله؛ التي تُطل نوافذُهُ على الشارع، فضُرِبت نافذةُ المجلس بحجرٍ ضربةً قوية، أحدثت صوتاً مُزعجاً تضرَّر منه جميـعُ من في المجلس، فقام بعضُ أبناءِ الشيخ مسرعين يريدون الخروج كردَّةِ فعلٍ لما حدث، فما كان من الشيخ إلا أن أمر أبناءه بالرجوع والجلوس، وأمر بإكمالِ القراءة، وكأن الشيخ يخاطبنا جميعا ويقول بلسان حاله ألم تقرؤوا حديثَ نبيِّكُم صلى الله عليه وسلم ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورِّثه).
رحمك الله يا شيخ عبدالرحمن فقد كان لتعاملك وسلوكك المبني على توجيهات الكتاب والسنة أبلغ الأثر في تصرفاتِ وسلوك أولادك وطلابك ومحبيك.
لقد أحسن الشيخُ إلى جيرانه، ووسعهم بأخلاقه؛ طلباً لجِوارِ الحبيبِ صلى الله عليه وسلم في الجنة، القائل: ((أقربكم مني منزلا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا)).
اطلب لنفسك جيراناً تجاورُهم   لا تصلحُ الدّارُ حتّى يصلُحَ الجارُ


وقد حضر الشيخ رحمه الله الصلاة على رجل من جيرانه وتبع جنازته، فلما انتهوا من الدفن وخرج الناس، وإذا بالشيخ يرى ابن المتوفى - بعد خروجه من المقبرة - يضع المشلح ( البشت ) الذي كان يُغطَّى به والده بجوار باب المقبرة من الخارج - جهلا من الابن - فيمر الشيخ بذلك البشت، وينفضه من الغبار، ويأخذه معه، فلما ذهب لتعزية جيرانه أعطى البشت لابن المتوفى، وأخبره أنه من الميراث، لا يحق لأحد أن يتصرف به إلا بإذن الورثة.  

لقد أحبَّ الشيخَ جيرانُهُ في الحي حُباً كبيراً، وارتبطوا به وقدموه؛ لما اتصف به من صفات كريمة وسجايا رفيعة، ولن أنس حادثةً -قبل عقود من الزمن- تدل على محبة الناس للشيخ، وإيثارهم له،عرفتها من الشيخ شخصيا فيما بعد، فقد سألني عن أحد جيرانه سابقا - في حي العزيزية - فلما أخبرتُهُ بوفاته تأثر الشيخ، وأخذ يدعو له، فلما انتهى قال لي (أن هذا الرجل كان له موقف لا أنساه، فقد علِمَ بنيتي بترك الحي وإخلاء السكن - لقلة ذات اليد - في ذلك الوقت، فوقف معي بماله، وصبر عليَّ في  السداد بعد ذلك) أ.هـ.

** الشيخ والغيرة على الأعراض:

لقد كان الشيخ حريصا على حماية الأعراض وصونها، مشفقا على المرأة لضعفها؛ رحيما بالشباب وناصحا لهم، فكان كثيراً ما يذهب للأسواق؛ يوجه وينصح، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وفي هذا الباب ذكر لي أحد الإخوة أن مقاولاً من دولة عربية أتى بزوجته وأسكنها في شقة استأجرها في حي العزيزية - الحي الذي يقيم فيه الشيخ - ثم حصلت لذلك المقاول مشكلةٌ ماديةٌ وتم توقيفه، ولما علم الشيخ تألم لحال الزوجة المسكينة، فذهب للجهة المختصة وشفع لإخراج ذلك الرجل، فأخبروا الشيخ بقضيته، وعدم إمكانية إخراجه، فلم يزل الشيخ يسعى بين الجهات المختصة مؤكدا صعوبة بقاء تلك الزوجة المسكينة في بيتها بمفردها، ولم يرجع الشيخ إلا وبصحبته ذلك الرجل؛ لتسعد زوجتُه، وتعيشَ  الأمنَ والطمأنينة بجوار زوجها.

** القبول الكبير للشيخ عند الناس:

يُجمِع الكثيرُ على القبول الكبير الذي حظي به الشيخ عند الناس؛ سواء كانوا رجالا أو نساءً أو أطفالا، وكذا من الأمراء والوجهاء والمسئولين، من أهل البادية ومن أهل الحاضرة، وعندما أرى هذا الإجماع أتذكرُ حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ، إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ)، لقد كان قبول الناس - على اختلاف منازلهم - للشيخ عبدالرحمن أمرا مشاهداً على مستوى المحافظة؛ فكان الرجل يأتي من البادية يبحث فقط عن الشيخ ابن صغير، فإذا وجدَه سلَّمَ عليه وقبَّل رأسَه وسأله، ثم انصرف داعياً للشيخ واثقاً من جوابه.
وكان تقديرُ الوجهاء للشيخ أمراً معروفا، واحتفاءُ المسئولين به مشاهدا، وذلك عند زيارته لهم في مكاتبهم؛ لإبداء النصح في بعض الأمور، وقد كان كلامُ الشيخ ونصحُهُ ينضحُ بالرحمة والشفقة، وكان الدعاءُ وقصدُ الخير هو السمة البارزة التي جعلت كلماتِه تصل إلى القلوب، ولقد كان الشيخ اجتماعيا  يشارك الناس في مناسباتهم؛ يحضر أفراحَهم، ويواسيهم في مصابهم، لا يرد دعوة أحد من الناس إلا لمانع، وكان الناس يفرحون بمجيئه، ويستقبلونه ويأخذون بيده حتى يُجلِسوه في صدر المجلس.


** الشيخ وحرصه على السُنَّة:

مما يميز الشيخ تمسكه بمنهج السلف، وحرصه على تطبيق السنة في جميع أحواله؛ في أكله وشربه  وسمته، وصلاته، ولباسه، ونصحه وغيرها... والمواقف في ذلك تطول، ولقد كان الشيخ نعم المعلم والمربي، فالكثيرون يعرفون عن الشيخ رحمه الله:
- حرصه وتوجيهه بالبدء بأمور العقيدة، وتعليم الناس التوحيد.

- النصح لولي الأمر، والدعاء له.

- تحذير الناس من السحرة والمشعوذين، وخطورة إتيانهم.

- الرفق بالمنصوح، والشفقة به، والدعاء له.

- لعق الصحفة بعد تناول الطعام؛ تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم.

- الجلوس في المصلى بعد صلاة الفجر، وصلاة ركعتي الإشراق.

- محبته لاجتماع الكلمة، والبعد عن النزاع والشقاق الذي يضعف الدعوة، ويفرق بين المسلمين، مع عدم تركه النصح والبيان، بالحكمة والموعظة الحسنة.  


** كرمُ الشيخِ وجودُهُ:

ما أوسع كرم الشيخِ، وما أكثر ولائمه؛ ولكن الروعة ليست في طول السفرة التي يقدمها الشيخ، ولا في اتساعها - وقد شاهدت ذلك مرات عديدة - ولكن الروعة والجمال تكمن في طريقة استقباله المتميز لضيوفه، ومحبيه وتلاميذه وجيرانه ومن يزوره، فكلٌ يقول أنا المقرب من الشيخ اعتمادا على حفاوة الشيخ، وتهلُّلِ وجهِه، وترحيبه، وابتسامته لكل أحد...
تـراه إذا ما جئته متهلـلا       كأنـك تعطيه الـذي أنت سائـله.
وكان الشيخ في مرات عديدة يتناول مع تلاميذه الطعام بعد الدرس، وكان يؤكد على حضورهم ويسعد ويفرح بتواجدهم، ويتحدث معهم، ويبتسم في وجوههم:  

وما الخَصْبُ للأضياف أن يكثرَ القِرَى   ولكنَّما وجهُ الكريمِ خصيبُ

** تواضعُ الشيخ رحمه الله:

من أجمل وأروع ما سمعتُه عن الشيخ ولم أكن أعرفه إلا من خلال القراءة في سيرة الأوائل من سلف الأمة، يقول الأخ محمد بن غازي الحربي - وقد رافق الشيخ في أحـدِ أسفاره، وكان الشيخ يقدره ويحبه محبة كبيرة - يقول: (  وصلنا إلى مكةَ بعد عودتنا من رحلة سفر طولة عائدين للمملكة برَّاً، وقد أخذ منا الجهد والتعب مأخذه، فلما وصلنا إلى السكن كانت الكهرباء (مقطوعة)، لكن لشدة التعب وضعنا رؤوسنا، واستسلمنا لنوم عميق في جوٍّ حار، قال: فلما استيقظتُ فإذا بالشيخ وفي يده قطعة ورق من كرتون يهف بها علينا...)، قمة الإيثار والتواضع التي رفع الله بها الشيخ.

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر   على صفحات الماء وهو رفيع

** همةُ الشيخ وجلُدُه:

أما همة الشيخ فقد سمت به فوق هام السحاب، ويكفي مثالا واحدا يوضح بجلاء هذه الهمة التي تتقاصر دونها هممُ كثيرٍ من الشباب، فقد جهز الشيخ رحمه الله في عام 1412هـ سيارة داتسون غمارتين موديل (94)، وكان تخطيطه وهدفه زيارة مصر ثم الانطلاق منها إلى بريطانيا مرورا بالأردن وسوريا وتركيا... على أن يتوقف في هذه الدول بعض الوقت للدعوة، ثم يواصل السير إلى بريطانيا، وكان قبل سفره يراجع وينظر في خارطة - قد أعدها مسبقا - ليتعرف على مراحل سيرهم، وتحديد الطريق الذي سيسلكه للوصول لهدفه، وقد عرض الشيخ على بعض الإخوة مرافقته، فوافق منهم أربعةٌ وهم ( محمد بن علـوش الدوسري (الأمير) - رحمه الله - ومحمد بن غازي الحربي، ومحمد بن سعد المعيذر، وفهد الهزاع)، ولم أحظَ بشرف مرافقتهم؛ لبعض الظروف في ذلك الوقت، وكان يحاضر من على سطح العبارة لساعات، والناس يعجبون بحديثه ويلتفون حوله، ويسألونه ويجيبهم مستشهدا بالقرآن والسنة، وفي أحيان أخرى تراه مع مجموعة من الأجانب يدعوهم للإسلام ويبين لهم- فقد كان يتحدث اللغة الانجليزية -.

وقد كان تاريخ وصولهم إلى  مصر- كما أخبرني الأخ الفاضل محمد المعيذر هو:(12/3/1412هـ) - وقد كانت جُلُّ محاضراتِ الشيخ وكلماتِه وخُطبِه في تلك الرحلة عن العقيدة، وقد حدثني بعض مرافقيه أنه كان يذكِّر الناسَ، ويلقي الكلمات بعد الصلوات الخمس، وأنه ألقى كلمةً في أحد المساجد، جعل يبيِّن فيها للمصلين أهمية التوحيد، ويحاورهم ويناقشهم، ويجيب على أسئلتهم، وقد امتد الوقت حتى دخل وقت صلاة العصر، وهو يرفع المصحف بيمينه، ويقول لهم إذا أتيتكم بدليل من غير هذا الكتاب العظيم فلا تقبلوه.
وقد مكث الشيخ مع الأخوة في مصر قرابة (نصف شهر) كان خلالها يوزع كتب العقيدة التي أتى بها بأعداد كبيرة، ويدعو إلى التوحيد والعقيدة الصحيحة في كل الأوقات؛ في المساجد تارة، وفي المناسبات تارة أخرى، متنقلا بين المحافظات والقـرى؛ يُنذرُ الناسَ ويحذرهـم من الشـرك بالله، ودعـاء الأموات، ولسان حالـه يـردد... 

من يسأل المقبورَ يُشرِك عامداً      ما الشركُ والإيمان يجتمعانِ

كـلُّ الذنوبِ يجوز غُفـرانٌ لهـا      لا يُغفــرُ الإشـراكُ بالـرحمنِ

ولما غادروا مصر باتجاه الأردن، ليواصلوا طريقهم باتجاه بريطانيا... تشاور الإخوة غيما بينهم، ولعلهم قد اشتاقوا للعودة لبلادهم وأهلهم، فأشاروا على الأمير - محمد بن علوش الدوسري رحمه الله - بأن يرجعوا للمملكة، على أن تكون الرحلة لبريطانيا في وقت آخر يُحددُ فيما بعد، فاجتمعوا بالشيخ وعرضوا عليه الأمر، فوافق الشيخ لأن هذا هو رأي الأغلبية.

** تعاملُ الشيخ مع طلابه:

كانت معاملةُ الشيخ لطلابه عجيبة، ومحبته لهم كبيرة؛ فكان حريصا على دعوتهم في المناسبات الصغيرة والكبيرة، وكان يستجيب لدعوتهم في بيوتهم، وكان يُعرِّفُ بهم عند من لا يعرفهم من العلماء والوجهاء تقديرا لهم، وأذكر أنه بعد انتهاء محاضرة للشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في جامع عمر بن الخطاب في حي الخالدية بالخرج - قبل أكثر من عقدين من الزمن - تقدم الناس يسلمون على الشيخ ابن عثيمين، فلما وصل الشيخ عبد الرحمن الوهيبي اقترب الشيخ عبد الرحمن الصغير من الشيخ يعرَّف بالشيخ الوهيبي بصوت مرتفع. 

والمواقف والذكريات مع الشيخ رحمه الله كثيرة؛ يطول سردها، ولا يتسع المجال لذكرها، ولعل أبناءه وطلابه يحتفظون بالكثير من ذلك.
   

رحمك الله أيها الشيخ المجاهد والداعية المربي؛ لقد أحببتَ الناسَ فبادلوك الحبَّ، ودعوتهم للحق في حياتك، فلهجت ألسنتهم بالدعاء لك بعد وفاتك..

رحمك الله فقد أمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر سنينَ طويلة، في الأسواق تارة، وفي المتنزهات أخرى، وعند ملاعب كرة القدم مع أذان المغرب، بلا تعب ولا ضجر، وبأسلوب رقيق وقلب شفيق، فكانوا يستجيبون لنصحك، ويقبِّلون رأسك.

لقد كنتَ تعيش المحبةَ والسلام مع الناس، فكان الجزاءُ من جنس العمل، فكانت تلك الكلمات العظيمة التي لهج بها لسانُك لتودعَ الدنيا بها ( اللهم أنت السلام ومنك السلام ). 


اللهم ارحم شيخنا ووالـدنا، الشيـخ الزاهد الورع الصابر عبدالرحمن بن علي الصغير واغفر له، اللهم احشره مع الأنبياء والشهداء والصالحين، اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة، اللهم وكما جمعتنا به في الدنيا على ذكرك، فاجمعنا به في الآخرة في جنتك، اللهم ارفع منزلته، وأحسن إليه، واجزه عنا خير الجزاء، إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا شيخ عبدالرحمن‏ ‏لمحزونون.


(اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام). 

                                         
كتبه/ فهد بن منصور الدوسري
                  خطيب جامع الملك عبد العزيز بالخرج                            
 1/1/1434هـ